Written by احمد حرب_غزة
|
20 April 2009
في جو من حصار خانق ظالم ومخالف لكافة الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية وقوانين حقوق الإنسان ,وفي ظل عدم توفر أدنى مقومات حياة الآدميين التي تضمن العيش بكرامة وحفظ ماء الوجه ,في ظل تضرر الحجر قبل البشر من احتلال لا يعرف الرحمة ولا الشفقة ,لا يعرف للنبل وللإنسانية أي مرادف ,احتلال لم يفرق صغير عن كبير أو مدني عن عسكري ,في ظل غياب القانون عن دولة تعتبر نفسها فوق القانون ,دولة أباحت كل المحرمات الدينية والدولية والأخلاقية وتفننت بقتل وقهر شعب أعزل تجرد من السلاح لكنه لم يتجرد من آدميته وقوة عزيمته وكرامته العربية التي وللأسف تجرد منها الكثير ,لم يتجرد من الصمود والعزة والخلود الملازمين لهذا الشعب الفلسطيني العظيم.في هذه الأجواء وقفت العجوز السمراء الحزينة تتألم على أبنائها الذين يموتون في شوارعها وهي لا تملك من أمرها إلا أن تذرف الدموع الحارة لوعة عليهم وعلى صمت هذا العالم الجبان على موتهم البطئ نتيجة نفاذ الغذاء والماء وحتى الدواء!!!تقف غزة الجريحة لتلملم من تبقى لها من أبناء وهي تسكب دموعها على من مات منهم نظرا لعدم السماح له بمغادرتها لتلقي العلاج اللازم والضروري ,فمات ولم يجد بعد موته قبرا ليريح فيه جثته التي عانت طوال حياتها ,والآن بعد موتها تعاني فلم تجد الحليب في طفولتها ولم تجد أماكن ترفيهية أو حتى أنشطة تفرغ فيها طاقة وحيوية شبابها ,لم تستطيع التمتع بمراحل عمرها نتيجة لهذا الاحتلال الإسرائيلي البغيض.بعد طول تفكير قررت السمراء أن تقوم بخطوة جريئة كانت خائفة من القيام بها منذ فرض الحصار الخانق عليها ,حيث قررت النزول لرؤية أبنائها ولترى مدى حبهم لها وهل تأثر ونقص نتيجة ما ألم بها ولعدم قدرتها على توفير مستلزمات حياتهم اليومية البسيطة بعد أن أصبحت سجنا كبيرا ,فمعبرها مغلق وسماؤها محتلة كما بحرها الباكي.غزة العريقة التي عاصرت أكثر من احتلال وأكثر من نظام سياسي ومرحلة تاريخية ,ذات الرمال الصفراء التي تداعب أقدام أبنائها العاشقين لها والكادين على العمل بها ,ذات البحر الأبيض المتوسط الذي يحتضنها منذ زمن ,ذات أشجار التين والزيتون والنخيل الممتد جذوره بأعماقها...هذه العجوز الجميلة التي اقترن اسمها بالمجد والعزة تقرر اختبار مدى حب أبنائها لها وقد بدت على وجهها المجعد ملامح التوتر والقلق الواضح ,فهي خائفة من أن يكون حبهم لها قد انتقص نتيجة هذا الظلم والاحتلال والفقر والاستبداد والقتل والتشريد وهي غير قادرة أن تعمل أي شئ ,حيث أنها لا تملك من أمرها سوى البكاء وقول كلمة "حسبي الله ونعم الوكيل"والتضرع إلى الله للطف بأبنائها.بخطوات منهكة ومترددة نزلت إلى الشارع ,نظرت العجوز بعينيها الدقيقتين وبوجهها المجعد بخطوط قد كسيت بهموم واضحة ,وإذا بها ترى طفلا صغيرا يركض بين سيارات الأجرة حاملا بيده الصغيرة علبة بها أوراق مناديل وبيده الأخرى علبة بها علكة ,وينادي الطفل على بيعها ,فيقف عند كل نافذة لأي سيارة متوسلا على من بداخلها للشراء منه..خافت العجوز على الطفل بعد أن ذهلت ودهشت من عفويته حيث أنه يجري بين السيارات غير مكترث من خطرها على حياته ,وعلى ما يبدو تذكرت بأن هذا الطفل الذي لا يتجاوز عمره العشر سنوات هو "محمد حسونة" ابن صاحب معرض ملابس في أحد شوارعها ,فنادت عليه وسألته ماذا تفعل بابني؟؟ فقال لها بلهجته الطفولية "بأبيع يا حجة بدك تشتري"؟؟ابتسمت وقالت له:شكرا ولكن ألا تخاف على نفسك من هذا الخطر؟ ما الذي يجبرك على ذلك ألا تأخذ مصروفك اليومي من والدك؟؟!لمعتا عينا الطفل بعد أن تجمعت قطرات الدمع بداخلهما ,وانحدرت دمعتان من عيناه الصغيرتان ,وقال: أنا أبيع كي أعيل أسرتي وأساعد أبي العاطل عن العمل.فنظرت إليه وقد بدا على ملامحها الاستغراب فهي تعرف أن والده يملك متجرا لبيع الملابس ,فقالت له أريدك أن تدلني على بيتكم لأزوركم...كفكف الطفل دموعه وقال لها: انتظريني قليلا سوف أبيع ما تبقى معي من مناديل وعلكة وآخذك لبيتنا...اجلسي هنا حتى أنتهي.جلست العجوز تتأمل شوارعها الخاوية من السيارات نتيجة إيقاف الاحتلال الإسرائيلي إمدادها بالوقود والغاز الكافي واللازم ,وأزعجها رائحة دخان بعض السيارات التي استخدمت زيت الطهي المسرطن كبديل عن الوقود النافذ ,كذلك نظرت إلى المحلات التجارية المغلق بسبب عدم توفر البضائع فيها بسبب إغلاق المعابر ,فأطرقت رأسها وكأنها لم تحتمل المنظر ولم ترفعه إلا على همس الطفل الصغير يقول لها :قد انتهيت هيا بنا..اصطحب الطفل العجوز السمراء إلى بيتهم المتواضع ,حيث كان والده في انتظاره وقد بدا الغضب واضحا على وجهه فقد تأخر محمد اليوم كثيرا ,ولكن غضبه قل عندما رأى الحزن وعلامات الإرهاق في عيون من يصطحبها ابنه ,فرحب بها وقد تيقن من هي..فسألته عن سبب إرسال ابنه وهو في هذا السن الصغير إلى بيع المناديل وسط سيارات الأجرة والمخاطرة على حياته....تجلت من الأب ابتسامة ممزوجة بآلام سنين قد مضت وشهدت على ما حدث معه ولكن هذه الابتسامة انتهت ببكاء مرير فقد ارتمى في حضن الأم العجوز ,وأخذ يسرد لها خليل حسونة ما حدث معه قائلا:لقد خسرت تجارتي نتيجة إغلاق قوات الاحتلال الإسرائيلي لكافة المعابر وعدم تمكني من إحضار البضائع وبيعها لتسديد الديون فاضطررت إلى إغلاق محلي التجاري ,والمعيل الوحيد لنا بعد الله بعض الكوبونات التي نحصل عليها ,وعمل ابني فلذة كبدي الذي يتقطع قلبي عليه عندما يترك ألعابه الصغيرة وطفولته البريئة ويذهب للعمل المرهق لكي يجني بعض الشواقل لتساهم ولو بالقليل..تأثرت العجوز وقد بدا عليها الإحباط وطلبت الذهاب إلى البحر ,ذهب الجميع ولحظة الوصول نظرت وإذا بها ترى رجل يجلس على صخرة قد كسا وجهه اليأس وبجانبه شبكته الملقاة على الأرض ,ينظر إلى البحر بحسرة واضحة عليه فسألته عن سبب إحباطه؟!فقال لها أنه يحاول صيد السمك على الشاطئ بهذه الشبكة منذ الصباح ولكنه لم يصيد أي شئ!!فتساءلت لماذا لا يصيد بالداخل فهناك السمك والخير الوفير!! فضحك الرجل وأشار بيده إلى زورق إسرائيلي جاثم فوق سطح البحر يقف متربصا لكل من يحاول التوغل أكثر من الحد المسموح به ,ولسخرية القدر في ظل انقلاب المعايير أن المسموح به هو المكان الغير متواجد فيه السمك ,وعند الوصول إلى مكان تواجده يتم وبدون تردد إطلاق النار بلا رحمة من هذه الزوارق الإسرائيلية اللعينة!!جلست العجوز على الرمال الصفراء وقد أسندت ظهرها على أيام شهورها الحزينة التي تمر بها وقد اجتمع أبنائها حولها ,واخذوا يحدثونها عما آلت إليه الأوضاع من حصار وقتل وتشريد وعدم توفر الأساسيات في ظل صمت عربي ودولي وعالمي مطبق ومريب!!!ولكنهم اقسموا لها بالله على أنهم مازالوا يعشقوها على الرغم من معاناتهم بداخلها إلا أن حبهم لها يزيد يوما عن يوم فغزة بوابة التاريخ والحب والحرية.وبعد صمت طويل للعجوز الجميلة وبعد تنهيدة أطول حاولت إخراج بعض الكلمات على الرغم من أنه قد أنهكها الحالة التي وصل لها أبنائها إلا أنها استجمعت قواها وقد بدا في نبرة صوتها المتقطع أنها وصلت إلى حل قد يخفف من معاناتهم فقالت :اسمعوا يا أبنائي أنا أعرف أنكم تحبونني ولكن.....قاطعها الجميع وقد فهموا ماذا تريد أن تقول ,وصرخوا جميعا بصوت واحد بصوت الحداد الذي أغلقت ورشته لعدم وجود المواد الخام وكذلك النجار ,وبصوت البائع الذي لا يجد ما يبيعه وبصوت السائق من جانب سيارته المتوقفة وبصوت الطبيب الذي يقف عاجزا أمام مرضاه لعدم توفر الأجهزة الطبية والعلاج وبصوت المهندس والعامل والفلاح والطالب قائلين :لن نستبدلك يا أمي ولو أعطونا بدلا من خيامك قصور..فظلم الأيام زاد من عشقنا إليك وتمسكنا بتراب أرضك الغالية.
اغرورقت عيون العجوز بالدمع الذي أخذ يسيل في شوارعها وزقاقها التي شهدت الانتفاضة الأولى ,وانتفاضة الأقصى المبارك الثانية ,واللتان أجبرتا الاحتلال على الخروج منها رغم أنفه ,وأخذت تضمهم إليها وهي تتمتم بكلمات خالدات :"حمدا لله أبنائي ما زالوا يحبوني على الرغم من عجزي وعلى الرغم من ظلم القريب والبعيد فينا".