غزة  تصطاد سمكها وسط الحصار

العدو من أمامكم ومن ورائكم؛ هذه الحال تنطبق تماما على أهالي غزة اليوم، حيث الحصار الإسرائيلي لم يرحم بحرها وصياديها، كما لم يرحم أطفالها ومسنيها.

أكثر من مليون و500 ألف فلسطيني يعيشون في سجن قطاع غزة الكبير، حيث يمارس بحقهم الجلاد الإسرائيلي أقسى أنواع العقاب والتعذيب: سد السبل بين اللقمة والأفواه الجائعة، قطع الطرق بين العالم والأحلام، تدمير كل فرص العمل والحياة.. وفوق هذا وذاك تلغيم مياه البحر للحؤول دون وصول السمك (الرزق) إلى شباك الصياد الفلسطيني. وإذا كان القول الشهير «العدو من أمامكم والبحر من ورائكم» قد استخدم عبر التاريخ لحث الجنود على القتال، فيما الخيار الآخر هو الانتحار، فان الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من سنتين يعني «النهاية» بالنسبة لـ 3500 شخص يعملون ويعتاشون من مهنة صيد الأسماك.

حصار البحر جزء أساسي من المعاناة اليومية، بدأ قبل الحصار البري، ومع ذلك هو موضوع خارج إطار المفاوضات التي تجري بين هنا وهناك وبين هذه الأطراف أو تلك. والاتفاقية الوحيدة التي نظرت في حال بحر غزة لم تحترمه إسرائيل يوما، فاتفاقية التسوية المرحلية الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في عامي 1994 و1995 نصت على الحق القانوني لصيادي غزة في ممارسة الصيد حتى مسافة 20 ميلا بحريا من شواطئ القطاع. إلا أن إسرائيل خرقت الاتفاقية واستمرت بمضايقة الصيادين وإرهابهم، خصوصا بعدما قلصت العشرين ميلا إلى 6 أميال فقط. وهذا الإجراء التعسفي ألحق الضرر بجزء كبير من حرفة الصيد التي انخفض مردودها من 3000 طن من السمك سنويا إلى اقل من 500 طن سنويا.

غزة جميلة.. هذا أول ما يتبادر الى ذهنك في اللحظة التي ترى فيها زرقة مياه بحر غزة وتسمع صوت موجه المتمرد أبدا..

غزة جميلة رغم الجراح ورغم الحصار.. ساحلها الممتد على مسافة 40 كلم (يشكل الحدود الجنوبية للقطاع) مساحة تدفعك للحلم، وأنت مفتح العينين، بأن تصبح غزة يوما ما «سنغافورة البحر المتوسط»، الوعد الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات صبيحة تسلم السلطة الفلسطينية الحكم في القطاع بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي.

غزة جميلة لكن حزينة.. اعتداءات إسرائيلية لا تتوقف، وانقسام داخلي يفرق بين الأخوة والأزواج، وضائقة اقتصادية لم يشهد لها العالم مثيلا، وقائمة الحاجيات التي يفتقر اليها الأهالي لا تعد ولا تحصى.

.. وغزة الجميلة تهددها الطائرات الحربية من الجو، ومدافع الدبابات من الشرق والبوارج الحربية من الجنوب.

يستيقظ ميناء غزة قبل الفجر. فمن قضى الليل في المياه باحثا عن الرزق يبدأ بعرض ما اصطاده بانتظار التجار والمواطنين الذين يتوافدون لشراء الأسماك. أما الصيادون الذين قضوا ليلتهم في بيوتهم فتراهم مشغولين بالتحضير لصيد الصباح الباكر: تجهيز الشباك وترتيبها في أماكنها المخصصة على متن القوارب والسفن، تعبئة خزانات الوقود والمياه، تحضير الطعام والمؤن اللازمة للرحلة وللحالات الطارئة.

وسط هذا المشهد المتحرك، هناك أكثر من دليل يذكرك بالظروف الصعبة التي يعاني منها الصيادون الفلسطينيون، والتي تحول مهنتهم الى صراع يومي من اجل البقاء. على امتداد الميناء قوارب علاها الصدأ بعدما يأس أصحابها من إصلاحها. فقطع الغيار غير متوافرة في الأسواق المحلية والمعابر مقفلة، والحال المادية حدث ولا حرج، فيما مردود الصيد اليومي يكاد لا يسد رمق أصحابه. بقع الزيت تلوث المكان. شبكات صيد تعطلت. وسفن توقفت عن العمل قسرا بسبب نقص الوقود، وغلائه إن وجد.

معظم القوارب موسومة بعلامات تركتها الأعيرة النارية الإسرائيلية، وبعضها أصيب أكثر من 10مرات.

جمال ورونق بحر غزة في الصباح الباكر يحتاج الى السلام ليكتمل. فغياب الاستقرار الأمني جعل كلمات الأغنيات التي عادة ما يصدح بها البحارة، تعبيرا عن شوقهم للبحر وتفاؤلهم بغلة «تبيض وجوههم وتفرح قلوب عائلاتهم»، محصورة في الأدعية الحزينة التي تسأل الله عز وجل أن يعيدهم الى البر أحياء سالمين.

. وإذا كانت العلاقة بين البحارة والطقس «طردية» في طبيعتها، فان الغزيين يكادون يظنون أن الأحوال المناخية متورطة مع الاحتلال.

صوت البحر يصبح غضبا مع الرياح العاصفة، وأمواجه تعلو كل شيء في البحر، إلا انه لا تلغي الحصار لحظة واحدة ولا تمنع وجود الطراد «القاتل» على بعد ستة أميال من الشاطئ، مما يعني انه إذا سلم البحار من المخاطرة وسط التيارات المائية فلن يسلم من النيران الإسرائيلية.

رغم الطقس الممطر والرياح كان البحارة هناك، كعادتهم، في مراكبهم الراسية فارغة عند الميناء، فلا مكان آخر يذهبون إليه، مثلما لا عمل آخر متوافرا لديهم إذا ما أرادوا يوما الراحة من عذابات ومخاطر المواجهة مع الاحتلال وسط البحر.

وحدهم أصحاب الزوارق الصغيرة من قرروا، في ذلك اليوم، تحدي الطقس، ففردوا صنانير الصيد، بحثا عن الأسماك الصغيرة. ففي النهاية رزق قليل أفضل بكثير من العودة الى المنزل بسلة فارغة.

منذ عشر سنوات، كان صيادو غزة يجرون في شباكهم نحو 3000 طن من الأسماك الطازجة سنويا، ولكن منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، انخفضت الإنتاجية بسبب زيادة الهجمات التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي. والآن، وبسبب الحصار الإضافي، فان الإنتاج السنوي من الأسماك الطازجة التي يصطادها الصيادون الفلسطينيون لا يكاد يصل إلى 500 طن.

فضلا عن ذلك، يتم إجبار الصيادين الغزيين على الصيد بشكل مستنزف في المياه الضحلة على مسافات قريبة من الشاطئ. ومثل هذا الأمر قد يكون مناسبا لأصحاب الزوارق الصغيرة. أما بالنسبة لأصحاب السفن الكبيرة، أمثال أبوخليل، فان إرساء سفينة يبلغ طولها 20 مترا وعمقها 8 أمتار في مياه ضحلة «يعني تحطيمها. عدا عن أن العمل في مثل هذه البركة التي تحددها إسرائيل لا يدر علينا الصيد الذي نريده ويحقق لنا الأرباح. فالسمك المرغوب، مثل هو سلطان إبراهيم (بقالايا) واللوقس، لا يتواجد في المياه الضحلة».

أبوخليل صياد محترف، ورث الحرفة أبا عن جد، ويخطط لتوريثها لابنه خليل، الذي يعمل معه على السفينة. لكنه يستدرك، قائلا: «وضعنا تحت الصفر. وإذا ما طالت الحال على ما هي عليه، فهذا يعني انه لن يبقى لدي ما أورثه لابني».

ويتابع أبوخليل: «لقد أمضيت نصف عمري في البحر. تعلمت الصيد من أبي الذي تعلمه من جدي. مركبي يحتاج 800 ليتر من الوقود يوميا. وسعر الوقود اليوم غالٍ جدا، كذلك سعر الثلج. وإذا ما أضفت تكاليف الصيانة الدورية اللازمة للاستمرارية وما ندفعه لجمعية الصيادين والنقابة، تستنتجين اضطرارنا الى عدم الإبحار بشكل يومي. فأنا على سبيل المثال، لا أعمل وحدي. لدي طاقم مؤلف من 8 من الرجال والأولاد، بينهم المحترف وبينهم المتمرن. ولكل من هؤلاء راتب يومي عليّ تأمينه قبل التفكير في عائلتي أو في نفسي حتى».

بعيدا عن البر، هناك كمٌّ من المصائب يواجه صيادي غزة يوميا. فالبوارج الحربية تتربص بهم عند مسافة 6 أميال بحرية، تصوب مدافعها النارية والمائية في اتجاه كل من يجرؤ على التقدم سنتيمترا واحداً ابعد من الأميال الستة.

نضال أبوعودة (23 عاما)، كان بين الطاقم عندما اعترض طراد إسرائيلي سفينة أبوخليل الأسبوع الماضي. فبالرغم من كل ما يجري فما زال بعض الصيادين يخاطرون بالإبحار لأكثر من ستة أميال، حيث يمكنهم إلقاء شباكهم في المناطق الغنية بالأسماك في المياه العميقة. وقارب أبوخليل متضرر أصلا من الأعيرة النارية التي تطلقها قوات الاحتلال الإسرائيلي.

يروي نضال قائلا: «لم نشعر بالطراد إلا وهو على مقربة أمتار قليلة جدا من سفينتنا. طلع مثل الشبح. وسمعنا مكبر الصوت يأمرنا بالتقهقر الى الوراء ويهددنا بفتح النار صوبنا. إنذار واحد لا يتكرر هو كل ما ينذر بوجود الطراد الشبح، الذي يتبعه، وفي ظرف ثوانٍ معدودة، ثلاثة الى أربعة طرادات مشابهة».

ويتابع نضال: «إنهم يريدون أن يجبرونا على التوقف عن عملنا. ثلاث ساعات ونصف الساعة اختبرت خلالها أقسى مشاعر الخوف والرعب. كانت الطرادات الحربية الأربعة تقذفنا بمدافع المياه القذرة من كل صوب وفي الوقت نفسه. وكانت المياه المندفعة بقوة قادرة على تدمير سفينتنا وإغراقها بمن عليها. وعلى بعد أمتار قليلة كانت تقف بارجة حربية إسرائيلية تطلق نيران رشاشاتها بشكل عشوائي، حتى ان نيرانها ألحقت أضرارا بمركبنا وكادت تقتل احدنا».

الإبحار في مجموعات إجراء احترازي يكاد يكون عادة مشتركة لدى جميع الصيادين في العالم. فهكذا يمكنهم التعاون ومد يد المساعدة بعضهم لبعض عند أي خطر يداهمهم. والصيادون الفلسطينيون يشعرون بالخوف في كل مرة يخرجون فيها الى الصيد. يخافون من إطلاق النار عليهم، ويخافون من مصادرة قواربهم وتعرضهم للاعتقال. لكنهم مرغمون على الصيد وليس لديهم سبيل آخر لكسب العيش.

يروي نضال ان سفينة أبو خليل كانت ضمن عشرة قوارب وسفن صيد فلسطينية أخرى، عندما وقعوا بين فكي الطراد الإسرائيلي «لأننا تجرأنا على التقدم خطوات قليلة فقط خارج خط الحصار».
وقال: «تفرقنا تدريجيا على بعد 6 ـ7 أميال من الشاطئ، وألقينا بشباكنا في البحر. كنا خائفين ومتوترين، ونتوقع أن تفتح البوارج الإسرائيلية نيرانها علينا.. وهذا ما حصل بالفعل. بدأت الطرادات تحوم حول السفن المنفردة بحركة دورانية وسرعة عالية، متسببة في حدوث أمواج كبيرة ترتطم بالسفن. وأصبحنا تحت مرمى المدافع المائية التي أغرقتنا بمياه وسخة تفوح منها روائح المجاري والمواد الكيماوية السامة».

وتابع: «لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. مكبر الصوت أمرنا بخلع ملابسنا والنزول الى قارب مطاطي صغير أرسلوه باتجاهنا.. بعد ذلك أجبرنا الصوت نفسه على الصعود الى الطراد وأيادينا مرفوعة فوق رؤوسنا. الجنود الإسرائيليون عصبوا عيوننا وأوثقوا أيادينا خلف ظهورنا.. بقينا على تلك الحال ساعات طويلة، خضعنا خلالها الى تحقيق مطول ومركز، ووجهت إلينا الشتائم على أنواعها، وتلقينا الرفس والضرب بأعقاب البنادق على رؤوسنا وخواصرنا. بعد ذلك تلقى من تلقى أوامر بالعودة الى سفينته عبر القارب المطاطي، فيما انساق الآخرون، وأنا منهم، الى المعتقل حيث بقينا أكثر من أسبوع».

التعسف الإسرائيلي حول مهنة الصياد الفلسطيني الى مواجهة يومية بين خيار الموت أو العمل من اجل إطعام أطفاله.

كما أن للحصار اثرا مدمرا حتى على المياه التي يبحر فيها الصيادون الفلسطينيون (داخل إطار الأميال الستة). فهناك أكثر من 50 مليون ليتر من مياه الصرف الصحي ترمى يوميا في بحر غزة، لعدم وجود خيار آخر لتصريفها.

صيادو غزة اضطروا الىالاستغاثة بالأميركيين. فقد خاطبت جمعية التوفيق التعاونية لصيادي الأسماك في غزة الوكالة الأميركية للتنمية USAID، وطلبت منها التدخل من أجل إدخال بعض المواد الأساسية التي يستخدمها صيادو الأسماك في عملهم، في محاولة أخيرة لإنقاذ هذه المهنة، التي «أصبحت معدومة».

وقدر ، الخسارة التي تكبدها الصيادون وأصحاب المهن المساندة منذ فرض الحصار، بثلاثين مليون دولار.
واقع الصياد الغزاوي اليوم مرير وصعب جدا، ومهنة الصيد في غزة أصبحت معدومة، والصيادون يكادون يهجرون البحر. فهل من مغيث؟!

يتكون أسطول صيادي غزة من 16 سفينة و60 مركبا متوسط الحجم بطول 16 مترا، إضافة الى العديد من القوارب الصغيرة ذات المحرك الواحد.

يعيش من صناعة الصيد أكثر من 40 ألف نسمة من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 1.5 مليون، غير أنها تشهد تراجعا ملحوظا منذ سنوات.

يحتاج الصيادون يوميا الى 40 ألف ليتر من الوقود و40 ألف ليتر من الغاز الطبيعي لتشغيل قواربهم.

في قطاع غزة، يوجد أكثر من 3500 صياد حرفي، يقطن غالبيتهم في مدينة غزة ومحيطها، حيث يقع الميناء الرئيسي للقطاع.

عادة يبحر الصيادون في مجموعات، وتبقى بعض السفن قريبة من بعضها البعض إلى حد ما عند نهاية الأميال الستة وذلك بهدف الحماية المتبادلة بين هذه السفن، إلا أن غالبية السفن تبحر لمسافة أبعد من الأميال الستة، في تحد لقوات الاحتلال الإسرائيلي.

قبل الحصار الإسرائيلي كان الصياد الفلسطيني يبحر بشكل متواصل 10-15 يوما.. وصار اليوم يعمل لساعات فقط.

بادرت جمعية الصيادين الى شراء الشبك من مصنعيه لتبيعه للصيادين بسعر التكلفة. رغم المخاطر والصعوبات يقبل أهالي غزة على الصيد لعدم توافر فرص عمل أخرى فيما الأحوال الاقتصادية تزداد سوءا. أكثر من 70 صيادا اعتقلوا السنة الماضية من قبل قوات الاحتلال.

في 23 أغسطس 2008 نجح 44 من المتضامنين، ينتمون لسبع عشرة دولة، في كسر حصار غزة لأول مرة، بعدما وصلوا على متن سفينتي «غزة الحرة» و «الحرية». وكانت هاتان السفينتان انطلقتا من قبرص محملتين بالمساعدات الإنسانية، ووصلتا القطاع بعد أن واجهتا تهديدات من جانب الإسرائيليين بمنعهما من الوصول للقطاع، كما واجهتا ألغاما بحرية وتشويشا عرقلت وصولهما لشواطئ القطاع عدة ساعات. وغادرت السفينتان يوم 28 سبتمبر القطاع وأقلتا معهما عددا من الفلسطينيين كانوا عالقين في القطاع.

المدافع المائية، التي ابتكرتها إسرائيل، بدل الطلقات النارية المكلفة، لردع الصيادين وإجبارهم على التقهقر الى الوراء، يجمع الكل على أنها معبأة بمياه المجاري المخلوطة بمواد كيماوية مؤذية للبشر ولخشب المراكب على حد سواء. فهذه المياه إذا ما أصابت الإنسان تتسبب باحمرار البشرة ونوبة حكاك مؤلمة واحمرار العينين وتدمعها. كما أنها تتلف الخشب حيث يصعب التخلص منها بسهولة، لا سيما مع شح المياه العذبة وعدم توافر المواد اللازمة للصيانة.

كشف التلفزيون الإسرائيلي النقاب عن سلاح جديد بدأ سلاح البحرية الإسرائيلي باستخدامه على شواطئ غزة يدعى بروتيكتور «المراقب الإلكتروني». والبروتيكتور عبارة عن قارب غير مأهول من إنتاج الصناعات العسكرية الإسرائيلية «رفائيل»، يحمل بداخله لوحات مراقبة إلكترونية متطورة، وعلى سطحه رشاش ثقيل وفي مكان بارز منه كاميرا مضادة للماء ويتحرك بسرعة ومناورة كبيرة.