ماذا بعد غزّة ٢٠٠٩؟
ناتالي أبو شقرا وحيدر عيد

 

«بعد الطوفان نلقى الصديق الزين... نتسندوا على بعض بالكتفين...». (صلاح جاهين).

لكن فلسطينيي قطاع غزة لم يجدوا الصديق الزين، تُركوا لمدة 27 يوماً لمواجهة أعتى آلات الحرب الشرسة وحدهم والتضامن العربي لم يتعدَّ الكلام المزخرف والشعارات التقليدية السخيفة والخطابات الرومنسية المضجرة وبعض التظاهرات المصحوبة بالبكاء والعويل والشكوى من قلة الحيلة! طفلة تُقتل أحلامها وفلاحة تُستهدف وهي تحصد ثمار زرعها، وصياد يصاب على قاربه الذي لا يتجاوز المترين وهو يواجه بوارج الاحتلال الحربية في مسافة لا منطقية مفروضة عليه لا تتجاوز ثلاثة أميال. وماذا عن التلميذ الذي تحطمت أمنياته والذي يطغى كابوس الواقع على قدراته وطموحه؟ وماذا عن واحد وستين عاماً من الإبادة الجماعية والقتل الهمجي والاحتلال وهدم المنازل وتوسيع المستعمرات وسرقة الأراضي والعنصرية الواضحة؟
المحرقة لم تنته في غزة. ما حصل ليس فقط تسونامي بل هو أيضاً طوفان وزلزال خرج منه فلسطينيو القطاع ليعودوا إلى حرب الإبادة الجماعية البطيئة.
من بعد صيف لبنان 2006، الآن غزة ٢٠٠٩... من شارك في محرقة غزة ٢٠٠٩؟ بعد دولة إسرائيل العنصرية يأتي النظام الرسمي العربي، بما يقوم به من استمرار في صمته المتعمد واستمراره في إغلاق معبر رفح. والاتحاد الأوروبي بعدم إدانته جرائم الحرب الصهيونية، بل بترسيخه علاقاته الاقتصادية مع إسرئيل مكافأة لها. أما الولايات المتحدة فهي كانت وما زالت الحليف الأحب للدولة الصهيونية الأكثر وفاءً.
يعيش سكان القطاع والضفة تحت الاحتلال المباشر ويعانون كبقية الشعوب المستعمرة سابقاً من الإمبريالية الغربية وترخيص الدم العربي الفلسطيني أمام الرجل الأبيض الذي يعتقد أنه ينتمي إلى قوم أعلى شأناً وإنسانية منا جميعاً، من شعوب ما يُسمى بالعالم الثالث حسب معايير الرأسمالية والإمبريالية الغربية والاستعمار الحديث.
غزة السجن الجماعي، أهلها تحت عقاب جماعي لخيارهم السياسي الديموقراطي وحصار مفروض لكسر المقاومة والشعب على الخيار المعادي لاتفاقية أوسلو وحق المقاومة بجميع أشكالها. غزة معسكر الاعتقال حيث قتل الفلسطيني هو العنوان الأكبر الذي يذكرنا بمعسكرات الاعتقال النازية كوارسو وأوشفيتز.
غزة المعزل العرقي أو البانتوستان الذي يذكرنا (ولو بوحشية أكبر وأكثر) بمعازل جنوب أفريقيا تحت احتلال الرجل الأبيض ونظام التفرقة العنصرية الممارس سابقاً.
كلا! لم ينتهِ نظام التفرقة العنصرية أو الأبارتهايد، فهو يأخذ شكلاً مختلفاً في فلسطين المحتلة. في أراضي الـ٤٨ حيث يعيش الفلسطيني العربي في ظل نظام عنصري يحرمه من الكثير من حقوقه المدنية والثقافية والقومية، وفي الضفة التي تتكون من معازل عرقية تفصل ما بينها نقاط التفتيش.
في عام 1960 أطلقت سلطة الرجل الأبيض في جنوب أفريقيا النار وقتلت نحو ٦٩ مشاركاً في تظاهرة لا عنفية، فكانت مجزرة شاربفيل بداية لحملة عالمية لمقاطعة دولة جنوب أفريقيا العنصرية دبلوماسياً واقتصادياً وثقافياً وأكاديمياً ورياضياً.
قاطعت الشعوب المنتجات المستوردة من دولة جنوب أفريقيا وبعض الدول منعت الاستيراد كلياً.
وها نحن الآن أمام مشهد تاريخي: غزة ٢٠٠٩. كلا، لم تذهب دماء الأطفال والآباء والأمهات هدراً. غزة ٢٠٠٩ هي بمثابة شرارة في العالم العربي أولاً: فلم تعد الشعوب العربية تعوّل على حكوماتها بل يجب على مؤسسات المجتمع المدني العمل للضغط على الحكومات: ماذا تفعل الأعلام الإسرائيلية مرفرفة في القاهرة وفي عمان؟ لم لا يزال معبر رفح مغلقاً في وجه فلسطينيي القطاع؟ لماذا تقتحم منتجات «نستلة» و«كوكا كولا» و«ماركس وسبنسر» وغيرها وغيرها الأسواق العربية؟
لقد ساهمت حملة المقاطعة العالمية للدولة العنصرية في جنوب أفريقيا في إسقاط نظام التفرقة العنصرية وقيام دولة ديموقراطية لجميع سكانها بغض النظر عن الدين والجنس والعرق واللون.
غزة ٢٠٠٩ يجب أن تكون بمثابة شرارة في العالم العربي. إن شعوب ما يُسمى بالعالم الثالث ليسوا غلابة كما يصورون وكما يوهمون. إن غزة ٢٠٠٩ يجب أن تكون بداية تحرر العقل العربي في تحديه للعنصرية الإمبريالية والاستعمار الحديث والدكتاتورية المحلية. في هذا السياق تأتي أهمية وضرورة كسر الحصار بأي شكل من الأشكال. وكانت هناك محاولات خلّاقة من الشعب ذاته بعدما كسر مليون ونصف مسجون داخل أكبر معسكر اعتقال جدران هذا السجن مرتين، ولكن للأسف من دون تفاعل عملي بعيداً عن الشعارات الطنانة، لذلك كان لا بد من اتخاذ خطوات عملية من نشطاء فلسطينيين ومتضامنين في خطوة رمزية كبيرة جداً تحدت هذا الحصار، ويجب أن يُبنى عليها أكثر لتحدّ واضح لكل من يشارك في هذا الحصار الذي خذل أهل القطاع.
لن تؤدّي المحرقة الأخيرة إلى إقامة بانتوستان أو معزل عرقي على أقل من ٢٢% من أرض فلسطين التاريخية في إطار ما يُسمى حل الدولتين العنصري بامتياز. بل يجب أن تؤدي إلى إنهاء الحديث عن تفاهات العنصرية هذه والبدء بالحديث جدياً عن البديل الديموقراطي، ليس فقط في فلسطين بل في العالم العربي بأكمله.
غزة ٢٠٠٩ أعطت زخماً هائلاً لحملة المقاطعة ضدّ إسرائيل، حيث رفض عمال دوربان في جنوب أفريقيا، بلفتة تاريخية غير مسبوقة، تفريغ السفن الإسرائيلية، وكذلك فعل بعض عمال الموانئ الأوسترالية، وتم احتلال العشرات من مباني الجامعات في أوروبا، البعض منها متبنّ نداء المقاطعة الثقافية والأكاديمية الصادر عن حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية في فلسطين.
كذلك أصدرت كلية هامبشير في الولايات المتحدة قراراً تاريخياً بعدم الاستثمار في بعض الشركات التي تتعامل مع إسرائيل. بالإضافة للنموذج الريادي الذي أعطته فنزويلا وبوليفيا بقطع العلاقات الدبلوماسية كاملة مع دولة إسرائيل العنصرية.
هذا جزء بسيط من الأمثلة العظيمة التي قامت بها الحركات المتضامنة ملهمة بالصمود الفلسطيني الأسطوري في قطاع غزة.
وهذا يحتم على كل القوى الوطنية العربية بأجنحتها المختلفة أن تفعّل قرار المقاطعة وفرض سحب الاستثمارات وعدم التطبيع.
القضية الفلسطينية قضية عادلة تتعدى القوميات وليست قضية عربية فقط بل هي قضية كل إنسان حر... هي قضية كل شعب محب للحرية والتحرر.
بعد أكثر من 4 أشهر على الطوفان والعودة للإبادة الجماعية البطيئة، لا يزال أهل غزة الأبطال في انتظار الصديق الزين!