شهادات حية وقصص واقعية من غزة على جرائم الاحتلال يرويها من عايشوا اجتياح منطقة تل الهوا
من الطبيعي أن يبدأ أي شخص نهاره بابتسامة مصحوبة بتحية الصباح لكل من يراه ,لكن من غير العادي أن يقوم الشخص ذاته مفزوعا يركض نحو غرف البيت كي يعد أفراد أسراته ويرى هل هم سالمين أم انتقصوا كما توقع بعد كل تلك الأيام والليالي الخيالية التي عاشها مواطنو سكان غزة.


هذه هي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة والتي صنعت آلاف الحالات المأساوية ,وأضافت لكل حالة معاني جديدة من الحزن والألم والحسرة ,تلك المعاني التي لم تتوقعها قواميس الإنسانية يوما في طيات صفحاتها ,فقد تجاوزت تلك الجرائم كافة الشرائع السماوية والقوانين والمواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن ,بالإضافة إلى انتهاك أدنى حالات حقوق الإنسان وتجاوز كل الحقوق البشرية وغير البشرية.
لم يفرق الحقد الإسرائيلي بين مؤسسة مدنية تحاول جلب الكوبونات لشعب منكوب وبين مسجد آمن ورجل متعب وطفل برئ وأم مذعورة تلملم أبنائها وهي تدعو الله ألا يصابوا بمصير مرعب كمصير أقرانهم.
كما ولم يفرق بين مقاوم له الحق في محاربة الموت ومدني له الحق في الحياة ,وبين بناية سكنية ومؤسسة ونادي وسيارة ,من الصعب جدا حصر ما تبقى فهو كثير.
وقفت في منطقة منكوبة من مناطق قطاع غزة وهي تل الهوا وتحديدا منطقة الأبراج ولاحظت السواد الذي يلف كافة الأبراج والبنايات نتيجة القذائف الإسرائيلية العشوائية التي حرقت ودمرت بشكل همجي ودون أي اعتبار ,كانت تقصف وتدمر لغاية التدمير والخراب والقتل فقط.
علي المنيراوي "أبو وائل" 53 عام يعمل حارس لبرج المهندسين أحد أكثر الأبراج تضررا روى بعض ما جرى معه من أحداث مروعة فقال :"منذ أن بدأت الطائرات الإسرائيلية بقصف المواقع كانت الحياة خوف ورعب خصوصا لدى الأطفال ,فقد تفاجئ الجميع من هذا الحقد الإسرائيلي الغير متوقع حيث دب الرعب والهلع في نفس جميع سكان البرج وأصبحت حركتهم غير طبيعية فجميع مدارس القطاع أخرجت الأطفال كي يذهبوا إلى بيوتهم وكان الأطفال مذعورين من شدة أصوات القصف الغير مسبوق بهذه الطريقة".
وبدأ يتحدث عن التوغل الإسرائيلي البري ولحظة وصول القوات الإسرائيلية إلى تل الهوا وتحديدا المنطقة التي كان يعمل بها أبو وائل فأردف قائلا :"عندما دخلوا منطقة تل الهوا كنت على رأس عملي ذهبت في حوالي الساعة العاشرة مساءا لإطفاء المولد الكهربائي الخاص بالبرج وبعد ذلك ذهبت لتناول العشاء حيث أنني لم أذق شيئا منذ الصباح ,بعد قليل من الوقت اختلفت الأمور وشهدت المنطقة حركة غير عادية للمواطنين ورجال المقاومة بما لديهم من أسلحة خفيفة وغير قادرة على صد قوات الاحتلال التي جاءت تقصف وتطلق الرصاص بطريقة همجية وغير معقولة وكان الضرب عشوائي "من كل فج وميل" ,عندما وصلوا للمنطقة كانت الساعة الحادية عشر مساءا حيث وصلت الدبابات إلى المنطقة مدعومة بطائرات حربية تطلق صواريخها بشكل "جنوني".
وتابع حارس البرج حديثه قائلا :"أصبحت قوات الاحتلال تقتحم البنايات وتطلق الرصاص بشكل كثيف جدا وعشوائي وفي هذه اللحظات انعدمت الحركة بشكل كامل في المنطقة نظرا لصعوبة الظروف ولم يستطيع أي شخص التحرك لأن تلك القوات كانت تعدم كل متحرك ,دخلوا في الأبراج واقتحموا الشقق بعد أن قاموا بتفجير أبوابها واخرجوا من كان بداخل تلك الشقق حيث وضعوا الرجال في شقة بالبرج المجاور والنساء والأطفال في شقة مجاورة ,ودخلوا الغرفة التي كنت أتواجد فيها وقاموا بتخريب وتكسير الأبواب والأثاث وكافة شبابيك الغرف وعمل فتحات في الجدران بالإضافة إلى تكسير البلاط ,بعد ذلك قاموا بتعصيب عيوني وربط يداي وقاموا بإلقائي في بدرم البرج المجاور "برج رمسيس" وانهالوا علي بالضرب بالإضافة إلى إطلاق النار بشكل مهووس من فوق رأسي وعلى جنبي حيث اعتقد أنني في هذه اللحظات سأصبح مع المفقودة حياتهم" وتابع أبو وائل متألما :"بقينا محتجزين منذ الساعة الحادية عشر والنصف تقريبا حتى الساعة السابعة صباحا مع قيام القوات الإسرائيلية بالتآمر فيما بينهم لإعدام المتواجدين وتصفيتهم عبر الكثير من الكلمات العنصرية وكانت القوات الإسرائيلية تتساءل فيما بينها عن كيفية التعامل مع من هم داخل الشقة حيث كان الحارس يقوم بترجمة كل كلام تلك القوات لمن هم برفقته في الشقة ,كذلك تعرضوا للتحقيق وتوجيه بعض الأسئلة لهم ومنها "أبن سلاحكم؟ هل أنتم من حماس؟ من أين تطلقون الصواريخ؟" بالإضافة إلى الضرب والاهانة والشتائم البذيئة وغير اللائقة" لأكثر من 50 شخص كانوا بالشقة.
وقامت كذلك القوات الإسرائيلية بأخذ هويات وجوالات كافة سكان البرج وفحص أرقامها عبر أجهزة الحاسوب التي كانت معهم ,وكانت تلك القوات تقول باللغة العبرية التي كان يفهما أبو وائل "سوف نقوم بإعدام كل المتواجدين في الشقة"وظلوا على هذه الحالة من تخويف للمواطنين ولعب بأعصابهم حتى ساعات متأخرة من تلك الليلة ,بعد ذلك قاموا بإحضار بعض المعلبات كي يأكل سكان البرج "تلك المعلبات التي سرقوها من السوبرماركت المجاور".
بعد انقضاء تلك اللحظات العصيبة انقشعت تلك الليلة المرعبة بالنسبة للسكان الذين لم يتمكنوا من الخروج لأنهم ما زالوا مذعورين مما حصل ,إلى أن قام الصليب الأحمر بالاتصال بالسكان حتى يخبرهم بأنهم يستطيعون الخروج ,ولحظة خروجهم قاموا بأخذ جولة في المكان المدمر ورؤية ما لم يكونوا يتوقعوه من "عجب عجاب" حيث جثث الشهداء الملقاة على جنبات الطرق والسيارات المحروقة والأبراج المدمرة وتدمير سيارات السكان التي أصبحت مثل "البسكويت" وتخريب واجهات العمارات وتدمير وإحراق المحلات المجاورة ,وتخريب للطرقات حيث لا يمكن لأحد المشي عبر تلك الطرقات المدمرة ,ورجع حارس البناية وسكانها ليروا الدمار الذي لحق بشققهم وبأثاثهم وملابسهم وكافة محتويات منازلهم التي دمرت وحرقت.
لم نبتعد كثيرا عن المنطقة وقمنا بالتحدث إلى شخص آخر عايش تلك الأحداث التي ألمت بمنطقة الأبراج حيث قال المواطن خميس حمودة :"ليلة وصول الدبابات إلى مشارف منطقة الأبراج كنت في بيتي ويبدو أن قوات الاحتلال شاهدت تحركاتي فأطلقت قذيفة دبابة باتجاهي ولكن من حسن الحظ أنها أصابت عامود الكهرباء ودمرته بشكل كامل وتطايرت الشظايا ودخلت إلى البيت وكسرت كافة زجاج البيت ومزقت الستائر وأحدثت فتحات بالجدران ,وقامت الدبابة بإطلاق قذيفة أخرى ولحسن الحظ مرة أخرى أصابت هذه المرة شجرة كبيرة مما أدى إلى تحطيمها وإحداث أضرار بالغة في مدخل البناية ,بعد دخول قوات الاحتلال إلى المنطقة قامت بجمع كافة السكان وأخذت الشباب إلى شقة وأرسلت النساء والأطفال وكبار السن إلى مستشفى القدس المجاورة لمنطقة الأبراج ,وذهبت معهم إلى المستشفى ومكثنا هناك ساعتين ,بعد ذلك قامت إدارة مستشفى الهلال بنقلنا إلى مدرسة الزيتون الإعدادية لننام تلك الليلة هناك بدون أي أغطية أو فراش ,وما أن أشرقت شمس اليوم التالي قمت بالرجوع إلى بيتي كي احضر الفراش حتى أنام لأنني في تلك الليلة لم أنام نظرا لبرودة الطقس وعدم توفر الأغطية ,وبعد علمنا بانسحاب القوات الإسرائيلية رجعنا إلى بيوتنا لنشاهد الشقق المدمرة والتخريب الذي لحق بمصعد البناية ومداخلها وبلاطها وزجاج البيوت ومحتوياتها.
وربما تعتبر قصة "أبو الأمير" من أكثر القصص إثارة حيث قامت القدس بإجراء مقابلة معه لترى كيف عاش وأسرته تلك الليلة من ليالي الاجتياح الإسرائيلي لمدينة غزة وتحديدا منطقة الأبراج في تل الهوا ,حيث بدأ أبو الأمير حديثة قائلا :"الساعة السادسة والنصف من فجر اقتحام الجيش الإسرائيلي لمنطقتنا تم تفجير باب شقتي وإشهار السلاح علينا وإطلاق النيران بشكل همجي وعشوائي داخل الشقة مما أدى إلى تحطيم زجاج البيت وتمزيق الستائر والكنب والخزانات وتحطيم جدران البيت وإحداث فتحات كبيرة ,ولحسن حظي أنني كنت أجيد اللغة العبرية ,صرخت عليهم وقلت هذا البيت لأطفال صغار ونساء ورجل كبير ولا يوجد بداخله سلاح ونحن نريد السلام ولا نريد الحرب ,قامت تلك القوات بسؤال أبو الأمير بطريقة مستفزة من بداخل البيت؟ قلت لهم لا يوجد إلا أنا وأسرتي ولا نحمل سلاحا ,قالوا لي :"أخرج جميع من بداخل البيت الرجال يخلعوا ملابسهم والنساء يتوجهوا للشقة المقابلة" ,نفذ أبو الأمير ما طلب منه بعد ذلك طلبت القوات الإسرائيلية منه فعل ذلك الأمر بباقي سكان البناية وإخبارهم بترك مفاتيح شققهم داخل أبواب الشقق وتحذيرهم من أن الشقة المغلقة والتي لا يوجد فيها مفتاح سوف يتم تفجير بابها بالقنابل ,فأخبرهم بأن هناك بيوت مغلقة ولا يوجد فيها أحد ,فقالوا له الشقة المغلقة سوف نقوم بتفجير بابها بغض النظر عن أسباب الإغلاق ,وما كان منه إلا أن نفذ ذلك الأمر وتم تجميع كافة شباب البناية في شقة وكافة النساء والأطفال في شقة أخرى ,وتم سماع العديد من أصوات الانفجارات التي أحدثتها تلك القوات في ذلك المكان المغلق لفتح الأبواب التي لا يوجد بها مفاتيح مما أثار الرعب في صفوف الأطفال والنساء نظرا لشدة الانفجارات ,بالإضافة إلى الدمار الهائل والتخريب الملحوظ لمداخل الشقق,وفي تلك اللحظات طلبت قوات الاحتلال منه تنفيذ تلك العملية مع سكان البناية الأخرى ,خاف أو الأمير وقال "هل تعتبروني درعا بشريا ,أنا أخاف أن أكون هدفا لعناصركم أو لرجال المقاومة" قالوا له لاتخف نحن سنحميك ,ذهب إلى البناية المجاورة وأخبر جميع من بداخلها لإخلائها وترك مفاتيح شققهم بأبوابها بحيث يتجمع الرجال في منطقة والنساء في منطقة أخرى.
بعد أن قامت القوات الإسرائيلية بتجميع سكان تلك المنطقة الرجال في بمعزل عن النساء طلبوا من أبو الأمير أن يصطحب النساء والأطفال إلى مستشفى القدس وما أن خرجوا من البرج قامت الدبابات بإطلابالقذائف وإطلاق الرصاص وتخريب الملعب الرياضي وكافة ألعاب الأطفال على الرغم من أنها لم تحوى في يوم من الأيام أي مقاتل كما ولم تحوى سلاح.
ق النار عليهم مما اضطرهم إلى الرجوع وقال لهم أوقفوا إطلاق النار كي نتمكن من إخلاء النساء والأطفال ,فقام الضابط بالاتصال بالعناصر المتواجدة بالدبابة وإيقاف إطلاق النار عليهم وتمكنهم من الخروج من المنطقة ,حيث قام الضابط بالطلب من أبو الأمير إيصالهم والرجوع فورا ,فقام بإيصالهم لكنه لم يعود للضابط حتى هذه اللحظة.
لحق التخريب والدمار الهائل بكافة أرجاء منطقة تل الهوا وكان لمنطقة الأبراج النصيب الأكبر من ذلك الدمار حيث يلاحظ من يمشي بتلك المنطقة المأساة وكأنها تجسدت في تلك البنايات وفي مفترقات تلك الطرق وفي نفوس هؤلاء الأطفال المذعورين والذين حرموا من كل شئ ومن متنفسهم الوحيد "منتزه برشلونة" والذي يعتبر بالنسبة إليهم المكان الترفيهي الوحيد الذي يمكنهم الذهاب إليه واعتبار أنفسهم أطفال ولو للحظات ,حيث أشار الطفل محمد أبو مطير إلى أن هذا المنتزه كان متنفسا للكثير من الناس وخصوصا لعائلته حيث كانوا يذهبوا بعد عصر كل يوم لتلك الحديقة التي كانت تحوى المراجيح والأشجار وبركة الماء والإنجيل الأخضر ,وتساءل الطفل أبو مطير عن السبب وراء تدمير تلك الحديقة