«أنا لا أسكن في أي مكان... عنواني هو اللامنتظر»، فإذا جئت تزورني بكيت وغنيت لك: زروني كل سنة مرة، حرام تنسوني بالمرة. وإذا قررت ألا تزورني فسأغني لك: ميّل يا غزيّل، يا غزيّل ميّل... ميّلك ميّولي، باسقيك فنجان قهوة وبعملك تبّولة. وإذا قررت أن تعيش معي فسأغني لك: على دلعونة، أهلاً وسهلاً شرّفتونا. وسأرقص لك الدبكة... فأنت جئت لتزور اللامنتظر!


ماذا سنأكل وماذا سنشرب؟ سنأكل القمع معاً ونشرب الخوف. وسنستمدّ من ذاكرة النسيان عام 1948 ونرقص على ألحان الموت والدمع كما يفعلون على شاشة التلفاز وفي معزوفة قرارات مجلس الأمن: إنه يا عزيزي لحن الـ194 والـ237 والـ2452 والـ2535 والـ2923 والـ3089 والـ3236 والـ3376 و... و... و...
لكن، يا سيدي العزيز، أرجوك أن تعذرني، ليس عندي كهرباء لغسل ملابسك ولا لحفظ مأكولاتك ولا لتشريج هاتفك الخلوي ولا لكيّ ملابسك ولا لسماع نشرة الأخبار التي ما زالت تعرض أحداث القرن الحادي عشر... اعذرني يا سيدي العزيز، ليس عندي حاسوب لفتح بريدك الإلكتروني، وليس لدي دواء السعال إذا مرضت من كثرة البرد أو حتى مدفأة لتشفي جسدك المرتجف. كلا، يا سيدي العزيز، نحن في اللامنتظر، اللامنتظر الأبدي...
رغم كل شيء، يا سيدي، سنغني. نعم، سنغني، فنحن شعب لا يموت، وسنغني للأطرش إلى الأبد.
أرجوك يا سيدي ألا تسألني من أنا أو ما الذي أفعله كي أتحدى الموت والزمان. أرجوك يا سيدي ألا تسألني عن حقوقك عندي. في اللامنتظر ليس هناك حق ولا باطل، ولا بيت ولا منزل، لا إنسان ولا قاتل. في اللامنتظر سنعيش أنا وأنت على لحن الفقر، على لحن النسيان والضجر، على لحن الشمس والقمر، على لحن الكبت والقهر، في اللامنتظر.
لا تسألني عن الوطن، ولا عن الثورة والفِتن، إن كان الصرصار في بيته يعيش أصبح للصرصار وطن، وأنا أعيش في فضاء كريه مع الجنّ والعََفن. لم يعد يرتعش قلبي للحب، ولدي مات من دون علاج أو نِعَم، حبيبي مات بين يدي وأنا أصلي للزعم. لزُعَم بارات السلطة وكرة القدم، لرفح وبيت حانون والسُّفُن. الأخبار هي الأخبار، وحالة الموت والحصار، والأخ والذئب والصرصار، والاحتلال والاستعمار، والعاصفة والإعصار، في تاريخي شعلة نار انطفأت ولكن بالإصرار، النار ما زالت ناراً.
يا سيدي العزيز، نحن العرب أحرار، وإن لم تصدقني، بالإصرار، فسأريك الموت والعار الذي ضرب كلّ «ثرثار» في عالم الأحرار.
نحن أصحاب لغة الضاد «نتضيّد» برتني ووتني وليفني، ونرقص لهم، فنحن أحرار... والرقص للأحرار.
سأريك خليج الذهب والفضة والمال والنفط وسنغني للملك والملكة في عصر «أوبرا»...
سنأكل اللبن والقشطة في الأحلام، والزبدة في المنام، ونبني أوطاناً من ورق وآذاناً للعرب. سنكسر طرب الصمت والـ«بوب» وسيقان الحرية و الـ«هيب هوب» وسنعيش لأبد الآبدين على صرخة تنادي من لا حياة له، فنحن في زمن الموت والسكوت وحياة القبو...
سنعيش في ظلمة تضيئها شمعة في الليالي الباردة، وعلى نغم الرياح سنصلي وسنستدعي أرواح شهداء الظلم والقتل والحصار والحرب... سنغني ونطرب ونحلم، وفي النهاية سأقتلك وستقتلني، لأن في اللامنتظر لا حبر ولا قلم ولا رصاص ولا أمم، بل ألم قاتل وكره مدمر محتضر.
- II - يا أيّها الرئيس: افتح المعبر!
سيدي الرئيس، أنا عامر. ابني اسمه ثائر. لا يا سيدي، ليس ثائراً ثائر، بل يعاني من الكبد الوبائي المنتشر في عمر الحادي عشر. ابنتي اسمها نضال، كلا ليست مع القضية، ولكنها فلسطينية تعاني من مرض الكلية وعمرها ثمانية.
سيدس الرئيس، أرجوك، اتركني أعبر، جسدي تعبان وعندي ولداي لأنقذ. ليس لي في الدنيا أغلى منهما، بجد.
سيدي الرئيس، أنا لاجئ، جئت في 1948 عندما هجّرني المحتل. فقدت عائلتي، سيدي، عندما بنوا الجدار الفاصل. كانت أمي في السرير وأبي في الحديقة ينازع. رجعت من مدرستي لأرى دبابات فوق الحطام، عندها عرفت أنني أصبحت يتيماً غير قادر على الغفران ولكن، سأسامح من تريد يا سيدي الرئيس، ولكن أرجوك، افتح المعبر!
سيدي الرئيس، أنا محاصر. أنا مغلوب، ومظلوم وفقير. أصبحت أرضي جرداء جرّاء الحصار، أقف أمامك عاجزاً. في بيتي يعيش عشرة أشخاص، من جار لجار وأخ وفأرين، نأكل الخبز مرّة في الأسبوعين، والمياه الصافية كلّ يومين، والخضار والفواكه لا نرى منها إلا بشيء تافه.
سيدي الرئيس، أنا لا أُعنى بكل من الحرية والاستقلال، التمسك والإصرار، التاريخ والتراث، التهمة وحقوق الإنسان، لكن أرجوك، ولداي مريضان. سيدي الرئيس، افتح المعبر!
سيدي الرئيس، أنا آسف، سامحني، أرجوك لن أعاند، لن ألاحق أي قضيّة ولن أعارض، لكن امنعهم من قطع أشجاري، أولادي تحتها ينامون والشتاء مطره قارص. أعدك بأني وسأتخلى عن القومية. سأتخلى عن حبي للأرض ولن أتحدث عن الوطنيّة. أعدك بأني سوف أكون من أشد مؤيدي اليمين والفاشيّة، وأنّي سأصوت لك ولحزبك والأكثرية.
سيدي الرئيس، في قلبي ألم، في قلبي وجع، أقف أمامك كالصنم. كصنم مجروح أمام آلام أولادي، أمام دمعهم الغالي وأمام صوتهم الباكي، أمام آهات وويل وليل طويل وجوّ رمادي.
سيدي الرئيس، العالم بأجمعه تخلى عني، العالم يتلذذ بمأساتي، العالم نسي معاناتي، نسي قضيتي ونسي آهاتي، نسي التاريخ والقمع والوجع والجرح والتهديدات، نسي التهجير والرعب والإرهاب، نسي كلمات الأغاني، أغاني الثورة والأرض وشعر مقاومة الفلسطيني، نسي زهر اللوز والياسمين، نسي الزيتون والفخار والمخبوز على الصاج، نسي دم الشهداء ونشرات الأخبار التي فيها يموت العشرات كل يوم حتى صار في ثقافتنا الموت... أمراً طبيعياً.
سيدي الرئيس، لقد نسيت العشق، لقد نسيت الحب، لقد نسيت جسدي الذي أصبح شكله مرعباً، فيه تلقيت الطلقات، فيه حاربت الإرهاب، به حملت الأعباء والأتعاب والأشواك.
لم أكن يوماً شاباً، لم أعرف الطفولة والألعاب، ولداي لا يعرفان الكهرباء، يعرفان العزلة والشقاء والبكاء.
سيدي الرئيس، عهد عبد الحميد لم ينتهِ. أراه كل يوم في الصفحات يجتمع مع قاتلي... سيدي الرئيس، هل ما زلت تسمعني؟
سيدي الرئيس! أنا الفلسطيني الذي يفتش عن موطنه تحت الرماد، أنا الفلسطيني الذي ما زال شعبه يتحدى الصعاب والفقر والكلمات الكاذبة والوعود الخاسرة.
سيدي الرئيس، غيرت رأيي، لا أعتقد أني سأنسى، كلا، أريد الحرية، أريد المقاومة.
سيدي الرئيس، أنت خذلتني... يا أيها الخائن والصنم الغبي!