كسارة أبو حمدي تتحدى الحصار لإعادة الإعمار

لا تكف تلك "الكسارة" التي تتوسط معملاً لأحجار البناء "البلوك" عن التهام أكلتها المفضلة المكونة من الحجارة، فبأدوات بدائية يلقمها صاحبها مزيداً من الحجارة فتتجرعها بمرارة، متحديةً حصاراً متواصلاً منذ ثلاثة أعوام على قطاع غزة.

ويقول أحمد حجي "أبو حمدي" الذي يعيل 13 فرداً لـ"صفا":" إنه يعمل في صناعة البلوك منذ سنوات طويلة وتعرضت ورشته السابقة القريبة من محررة "نتساريم" للتجريف مرتين قبيل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005".

ويضيف أبو حمدي "بعد أن تأثرت مادياً وبعد بدء الحصار تأجرت هذا المكان وبدأت بتكسير الحجارة لاستخدامها في صناعة الحجارة وتكسيرها لأحصل على الحصمة".

وتمنع قوات الاحتلال دخول مواد البناء عن قطاع غزة منذ عامين، مما أدى إلى مفاقمة معاناة المواطنين خاصة بعد الحرب على غزة التي خلفت دماراً واسعاً في البنية التحتية، خاصةً في منازل المواطنين.

ويستعيض "أبو حمدي" عن مادة "الحصمة" التي تدخل في صناعة "البلوك" بأكوامٍ من مخلفات الحرب، وركام الدمار، فتقوم آلته بتكسيرها وإعادة استخدامها في صناعة الحجارة.

ترشح ملابس "أبو حمدي" وأولاده عرقاً، فساعات العمل من كل يوم تتوسط كبد الشمس الحارقة في صيف بطعم الحصار.

ويحيط بماكينة أبو حمدي أكوام من الحجارة مختلفة الأحجام حيث يجلبها من مناطق الدمار التي خلفتها الحرب على القطاع.

بخطوات رشيقة يتنقل أبو حمدي وأولاده في مناطق الدمار التي ألفو البحث فيها عن مبتغاهم فيجمعون الحجارة وينقلونها عبر عربات كبيرة لتتكسّر تحت أسنان آلته الصلبة.

ويدخل في مجال عمله مخلفات المنازل بمنطقة المغراقة وقرية جحر الديك والمخيمات الوسطى ودير البلح والتي كانت مسرحا لعملية العدوان الأخيرة.

وعلى أعتاب ورشته أكوام من ركام المنازل المدمرة اختصرت معها ذكريات عشرات السنين وهي اليوم بانتظار طحنها تحت أسنان كسارة لا تعرف سوى ابتلاع المزيد من الحجارة.

تمدد أولاد أبو حمدي تحت شجرة بيضاء علق بها غبار كثيف فتحول لونها هاربين من حرارة الشمس فقد بدأت استراحة الظهيرة استعداداً لمواصلة العمل.

يدفع "أبو حمدي" 3000 دينار أجرة لقطعة أرض مساحتها دونماً واحداً يقيم عليها ورشته التي تحولت أيام الحرب على غزة إلى ملجأ بفعل استهداف الاحتلال لمنزله جنوب غزة.

ويبلغ ثمن طن الأسمنت القادم عبر الأنفاق مع مصر 3200 شيكل ما يمنع "أبو حمدي" من العودة لصناعة الحجارة بشكل اعتيادي كسابق عهده.

وبلغ ثمن كيس "شوال" الأسمنت في شهور ماضية سعراً خيالياَ فوصل إلى 50$ بينما يترقب أصحاب المنازل المدمرة دخول الحديد الصلب وبقية مواد الإنشاءات لبناء منازلهم المدمرة.

ورغم مطالبات المؤسسات الإغاثية والإنسانية بضرورة رفع الحصار وإدخال مواد البناء لإعادة إعمار غزة إلا أن الاحتلال لازال يمنع وصولها لغزة ليزيد من معاناة مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم.

وتعلو هامات "أبو حمدي" وولديه حمدي ورمضان ذرات الغبار ما حولهم أكبر من أعمارهم بعشرين سنة وهم لا يفتئون يشتكون من ضيق الحال وتبدل الأحوال.

وقال أبو حمدي إن تكلفة نقل العربة الكبيرة من مخلفات الحرب تبلغ 1000 شيكل وهو ما يجعله يفكر ملياً كل صباح هل سيكسر الحجارة لإنتاج "الحصمة" أم أن إنتاج 100 حجر بسعر 4.5 شيكل للواحد أفضل.

وأضاف " نريد فقط تأمين طعام اليوم وتغطية مصاريفنا، نصنع حجارة وجودة كل حجر حسب نسبة الأسمنت وأيضا حسب طلب الزبون".

ويبلغ ثمن الحجر الواحد من فئة 10سم = 3 شواقل، أما حجر 15سم=4.5، وحجر 20سم = 5.5 شيكل وهو سعر مضاعف عن الوضع الطبيعي قبل الحصار.

يبتسم "أبو حمدي" حاكاً رأسه عند سؤاله عن سرّ المهنة فكسارة الحجارة أصبحت اليوم محط أنظار معظم أصحاب ورش ومعامل الحجارة في قطاع غزة.

وتقتصر منتجات "أبو حمدي" على ثلاثة أنواع من الحجارة إضافة لصناعة "الحصمة" حسب الطلب واتصالات الزبائن فمعدل إنتاجه اليومي يتراوح ما بين 100-250 حجر فقط.

حاول ثلاثة آخرين تقليد "أبو حمدي" لكن سرّ المهنة بقي راقداً في أحشاء كسارته الصلبة والتي يعتبرها حتى الآن وفية لوجباتها الدسمة.

يزهو أبو حمدي بكسارته مضيفاً " أنا أول من جرّب تكسير الحجارة فانا صاحبة صنعة من سنوات طويلة والكل يسألني عن السرّ الذي تتكسر به الحجارة بهذا الحجم المناسب لصناعة الحجارة فلا أخبرهم لأن ذلك سرّ ".

ويعتبر الإفشاء بذلك السرّ كسراً لقواعد مصدر الرزق الوحيد الذي تركه يصارع أقسى ما خلفته الحرب على غزة, الدمار الممتد على مدى العين.

وحاول "أبو حمدي" أن يستبدل صنعته الجديدة بالعمل كسائق أجرة لكنه وقع في إحراج كبير، قائلاً:" "معظم من يركب معي كان من الأصدقاء والمعارف فأقول لهم كلهم أجرتك علينا وهكذا لم ينفعني العمل كسائق".

وأكد "أبو حمدي" أنه سيبقى محتفظاً بالسرّ فمصاريف "العيال" لا تنتهي وزواج ابنه الثالث عطا الله بعد شهور بحاجة لكثير من المصاريف لذا فهو يرى أن الصمت أولى في هذه الحالات.